بالاحمر : إلياس العماري: الذئب الريفي الذي خرج من الرماد

ناظور24: بقلم عبد العزيز بن صالح
ظهر إلياس العماري في المشهد السياسي المغربي كما لو أنه قادم من منطقة رمادية بين الممكن والممنوع، بين ما يُقال وما لا يُقال. لم يحتج إلى مقدمات طويلة، ولم يمر عبر المسالك التقليدية لصناعة الزعامات. خرج من الرماد فجأة، وأثار من حوله ضجيجًا بقدر ما أثار غبارًا، حتى صار حضوره أكثر كثافة من خطابه، وأكثر إثارة من أفكاره
لم يكن انتماء العماري إلى الريف تفصيلاً جغرافيًا عابرًا، بل كان عنصرًا مؤسسًا في مساره. الريف، بما يحمله من تاريخ تمرد، ومخزون ذاكرة مثقلة بالصدام مع المركز، ظل دائمًا منطقة قلق في المخيال السياسي للدولة. في هذا السياق، بدا العماري كأنه الإجابة الممكنة عن سؤال قديم: هل يمكن للمنطقة أن تُحتوى عبر أحد أبنائها؟ وهل يمكن تحويل التاريخ الاحتجاجي إلى رافعة إدماج سياسي؟
قيل الكثير عن أن الرجل جيء به بوصفه «غروند فاذر الريف»،grandfather الوسيط القادر على مخاطبة الدولة بلغتها، والريف بلهجته. لكن هذا الدور، وإن بدا مغريًا، كان أكبر من أي شخص، وأعقد من أن يُختزل في فرد، مهما امتلك من نفوذ أو ذكاء أو شبكة علاقات.
لم يُعرف عن إلياس العماري أنه مفكر أو صاحب مشروع إيديولوجي متماسك. قوته الحقيقية كانت في ذكائه الفطري الحاد، وفي قدرته على قراءة موازين القوى، والتحرك داخل المساحات الرمادية التي يتجنبها الآخرون. كان يعرف متى يتقدم ومتى ينسحب، متى يتكلم ومتى يترك الصمت يتكلم عنه.
هذا الذكاء هو ما سمح له باختراق البنية السلطوية، أو على الأقل الاقتراب منها إلى حدود أربكت خصومه ورفاقه معًا. حضوره في مواقع حساسة، وصعوده السريع داخل حزب الأصالة والمعاصرة، جعلا منه لغزًا سياسيًا: هل كان صنيعة ظرف سياسي معين؟ أم نتيجة براعة شخصية استثنائية؟ أم مزيجًا معقدًا من الاثنين؟
حين تولى العماري قيادة حزب الأصالة والمعاصرة، بدا الحزب كجسد تنظيمي ضخم بلا روح سياسية واضحة. لم يكن حزب أفكار بقدر ما كان حزب مواقع. والعماري، في هذا السياق، لم يكن زعيمًا كلاسيكيًا بقدر ما كان مدير توازنات. يعرف كيف يجمع المتناقضات، لكنه لا يمنحها معنى جامعًا.
هذا ما جعل حضوره قويًا وسريع الاحتراق في الآن نفسه. فقد كان الرجل أكبر من الحزب أحيانًا، والحزب أكبر من قدرته على السيطرة أحيانًا أخرى. ومع تصاعد التوترات الاجتماعية، خصوصًا في الريف، بدأت حدود هذا النموذج في الظهور.
جاء حراك الريف ليكشف حقيقة جوهرية: الريف أكبر من أن يحتويه شخص واحد، وأعمق من أن يُدبَّر بمنطق الوساطة الفردية. في تلك اللحظة، سقط وهم «التحكم من الداخل»، وظهر أن الغضب الاجتماعي لا يعترف بالرموز الجاهزة، حتى لو كانت من “جلده”.
لم يكن الحراك مجرد احتجاج اجتماعي، بل كان إعلانًا صريحًا عن فشل مقاربة سياسية كاملة، ترى في الأشخاص بديلاً عن السياسات، وفي النفوذ بديلاً عن العدالة المجالية.
وكما ظهر فجأة، اختفى إلياس العماري بنفس الفجائية. لا بيانات وداع، ولا معارك أخيرة، ولا محاولة لإعادة التموضع. انسحاب صامت زاد من غموض الرجل، وفتح الباب أمام تأويلات متعددة: هل أُنهكت مهمته؟ هل انتهى دوره بانتهاء ظرفه؟ أم اختار الخروج حين أدرك أن اللعبة أكبر من أوراقه؟
في المحصلة، يصعب تصنيف إلياس العماري في خانة واحدة. لم يكن بطلًا، ولا مجرد أداة. كان نتاج مرحلة سياسية خاصة، بكل تناقضاتها وتردداتها. رجل استثمر ذكاءه الفطري إلى أقصى الحدود، لكنه اصطدم بحقيقة أن التاريخ الاجتماعي لا يُدار بالعقل الفردي وحده.
سيظل العماري شخصية غامضة في الذاكرة السياسية المغربية: ذئبًا ريفيًا خرج من الرماد، وترك خلفه أسئلة أكثر مما ترك أجوبة، ومسارًا يصلح لأن يُقرأ لا بوصفه قصة رجل، بل مرآة لمرحلة كاملة بكل ما فيها من التباس.



