"أنا كارنينا" .. هكذا أودت الغطرسة بـ"الأرستوقراطية الروسية"


"أنا كارنينا" .. هكذا أودت الغطرسة بـ"الأرستوقراطية الروسية"
محمد بنعزيز*

إنها سيرة امرأة العزيز من جديد، سيرة كتبها كثيرون... كتبها غوستاف فلوبير في "مدام بوفاري" وكتبها عبد الرحمن منيف في "قصة حب مجوسية" وكتبها مع جبرا إبراهيم في "عالم بلا خرائط"... وكتبها خورخي أمادو في روايته "أرض ثمارها من ذهب" عن المرأة التي تضع قرْنين لزوجها...

لكن سيرة "أنا كارنينا"، بقلم الروائي الروسي الشهير ليون تولستوي، تبقى قمة لا تدرك. وهي واحدة من الروايات الاكثر تأثيرا في الأدب العالمي. وترصد زمن الفروسية في روسيا نهاية القرن التاسع عشر قبل أن تجتثه ثورة 1917. نكتشف أن البيروقراطية هي روح روسيا، وأن الفلاحة هي معدتها. تلك هي روسيا الغامضة، التي جعلت الرئيس فلادمير بوتين يستشهد بالشاعر الروسي تيوشيف الذي يقول: "روسيا لا يمكن أن نفهمها، يجب أن نؤمن بها".

رغم غموض روسيا، فقد التقط ليون تولستوي روحها من خلال بذخ وغرور وقسوة أرستقراطيتها التي بقيت في الحكم أطول من اللازم بسبب خضوع الفلاحين وغياب طبقة وسطى قوية. أرستوقراطية متدينة على مستوى الخطاب. وهي متحررة من الكدح بفضل السيطرة على ثروات مساحة أرض رهيبة... أرض يخدم فيها أقنان. يخاف الاقنان من تحريرهم. سيكونون مضطرين للبحث عن عمل وسكن... لكن ريح الثورة قادمة، يشعر بها الروائي.

هذا هو لب الرواية ولب الفيلم الذي أخرجه Joe Wright في 2012. الرواية هي سيدة قوانين السرد، لكن السينما تتجاوز الرواية بالكتابة البصرية الراقية... وقد كان هذا تحديا كبيرا للمخرج: كيف يقتبس ويستخرج فيلما طوله ساعتان من رواية تمتد على 1140 صفحة؟

نكتشف أن البيروقراطية هي روح روسيا وأن الفلاحة هي معدتها. تلك هي روسيا الغامضة.



لنتابع الفيلم:

تتعرف آنا على فارسها، الضابط بالبذلة "الميري". إنه هوس النساء بالبذلة العسكرية للضباط. وهو هوس يكشف إعجاب المجتمع بالعسكر. يجري المشهد في الثلج مما يسمح للمتفرج برؤية الأنفاس الحارقة.

حين تلتقي آنا بالضابط، تقفز السعادة من عينيها بعد اللذة. في لقطة رمزية، يشارك الفارس في سباق للخيل. ويقتل فرسه بمسدسه حين سقطت في مضمار السباق ولم تخمن العشيقة مستقبلها... العشيق هو الذي يقتل لا الزوج. يقول الزوج إنه لا يقتلها لأن الله لا يحب الانتقام، لكن يقرر أن للخطيئة ثمنا.



ومع ذلك، فبعد الحب جاءت المسامحة... قاومت الزوجة الغواية لكن القلب أقوى من العقل. فعمر الغريزة ملايين السنين بينما لا يزيد عمر العقل عن آلاف السنين. لهذا أنا متشائم بخصوص الطبيعة البشرية. وهكذا تابعت آنا خياناتها. وقد أدت الممثلة كايرا نيغتلي الدور ببراعة حتى أني حزنت من أجلها... هذا فيلم يجعلني أطل من موقع مرتفع على العالم.

تعبيرا عن الندم في قيم الفروسية يكاد الضابط السامي يقبّل زوج الخائنة، فالقلب لا يعترف بالنياشين على الكتف... لشقيق آنا شوارب معقوفة أهانتها. لكن بفضل قوة الحب الأعمى لا تشعر هي بالعار. تحضر المناسبات الاجتماعية. تتجه إلى الطلاق من زواج أرتذوكسي، ولن يسمح لها الكاهن قط بالزواج من جديد... بمصير آنا المظلم يدين تولستوي الرجعي تحرر النساء... يقول إنهن لا يستحقْن الحرية لأنها تقودهن إلى الغواية والخطيئة...



صوّر المخرج الحب والمشاهد الرومانسية دون ابتذال التكرار. وبفضل القطع، فالإيقاع جيد في الفيلم. وقد نجح المخرج في تركيب صور شاعرية، حتى إنه يمكن للمتفرج قطع الصوت ومشاهدة الفيلم صامتا لاكتشاف حجم قوة الصورة.

فيلم ينصح بمشاهدته عاجلا لأن الرواية التي اقتبس منها ليس مجرد حكاية، بل هي جزء من سيرة الروائي الشهير ليون تولستوي، حتى إن زوجته هددته ذات يوم بأن تنتحر كما انتحرت بطلته المتخيلة آنا كارنينا.